عقد «مدى الكرمل- المركز العربيّ للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة» بالتعاون مع «مقهى ليوان الثقافيّ» ندوة بعنوان «حرب القبيلة على قطاع غزّة»، يوم 12 كانون الثاني (يناير) 2024، في سوق مدينة الناصرة.
قدّم مداخلات في الندوة كلّ من إيلان بابِه، المؤرّخ والناشط السياسيّ ومدير «المركز الأوروبّيّ للدراسات الفلسطينيّة» في «جامعة إكسيتر»؛ وعرين هواري، الأكاديميّة والناشطة النسويّة والسياسيّة؛ ومحمود يزبك، المؤرّخ المختصّ في تاريخ الشرق الأوسط وتاريخ فلسطين الاجتماعيّ والسياسيّ؛ ومهنّد مصطفى، الباحث في العلوم السياسيّة ومدير عامّ «مدى الكرمل». وقد أدارت الندوة وحاورت المتحدّثين أريج صبّاغ- خوري، الباحثة والمحاضرة في العلوم الاجتماعيّة.
نقدّم هنا ملخّصًا لأهمّ ما جاء في مداخلات المتحدّثين.
دولة القبيلة الإسرائيليّة وحدودها
في مداخلته المعنونة بـ «دولة القبيلة الإسرائيليّة وحدودها»، تناول مهنّد مصطفى مسألة تشكّل نهج القبيلة إسرائيليًّا في سياق الحرب على قطاع غزّة، الّتي تمثّلت في ترسيم حدود خارجيّة وداخليّة لهذه ا
لقبيلة. تهدف الحدود الداخليّة إلى تعريف مَنْ ينتمي إلى القبيلة إثنيًّا وأيديولوجيًّا، حيث يكون التعامل مع مَنْ يُصَنَّف خارج القبيلة على أنّه ’عدوّ‘. داخليًّا، صُنِّف فلسطينيّو 48 ’عدوًّا‘، إلّا في حالة تماهيهم مع القبيلة، وهذا يكون مشترطًا بعدم اتّخاذ موقف ما معارض لإجماع القبيلة، وعدم التعبير عن مشاعر التضامن مع أهل قطاع غزّة، حتّى في حالة المساواة بين الطرفين، الإسرائيليّ والفلسطينيّ، في المعاناة والألم. يشعر كلّ فرد من أفراد القبيلة أنّه في معركة خاصّة، أو يُنتج معركة ضدّ ’العدوّ‘، إن كان في العمل، أو التعليم، أو الإعلام، أو شبكات التواصل الاجتماعيّ، أو غير ذلك. كلّ فرد في القبيلة يطالب أفرادها الآخرين بالتجنّد في معركته الداخليّة الّتي أنتجها ضدّ عامل، أو سائق حافلة، أو طالب جامعيّ، أو فنّان، أو مواطن عبّر عن مشاعره، حتّى لو لم يعبّر عن مواقفه السياسيّة والأخلاقيّة بوضوح.
عبر هذه المقاربة، ذهب مصطفى إلى أنّ هناك مستويات وأنماطًا من الأنظمة السياسيّة السلطويّة؛ منها النظام السلطويّ الناعم الّذي يسمح لمَنْ يحكمهم بالتعبير عن موقف طالما أنّه لا يتحدّى السلطة، ومنها النظام السلطويّ الصارم الّذي يمنع مَنْ يحكمهم حتّى من التعبير عن مشاعرهم. وفق هذا التصنيف، فإنّ إسرائيل في تعاملها مع مشاعر فلسطينيّي 48 في سياق الحرب، لا مواقفهم فقط، تُعَدّ نظامًا سلطويًّا صارمًا.
وحول إمكانيّة إنهاء وجود «حركة المقاومة الإسلاميّة- حَماس» على يد النظام الإسرائيليّ وحلفائه الدوليّين والإقليميّين، ذهب مصطفى إلى أنّ المستعمِر قد يهزم حركة وطنيّة ما، ثمّة حالات شهدها العالَم كهذه، لكن في الشرق الأوسط تحديدًا، لم تُهْزَم حركة دينيّة إسلاميّة واجهت الاستعمار. وأضاف أنّ توصيف «حماس» على أنّها «داعش»، وبناء إستراتيجيّة عسكريّة من أجل إنهاء وجودها استنادًا إلى ذلك، أمر من المستبعد جدًّا أن ينجح؛ إذ إنّ شعبًا مستعمَرًا من العسير هزيمته وحركته الوطنيّة، خاصّة أنّ الشعب الفلسطينيّ يقاوم المشروع الصهيونيّ وحلفاءه منذ 100 عام، ولم يعلن استسلامه حتّى الآن رغم الأثمان الباهظة الّتي دفعها، وما يزال، وإن أخفق أحيانًا أو فشل في إدارة الصراع. من المستبعد هزيمة حركة مثل «حماس»، حتّى وإن أُضْعِفَت أو ضُرِبَت بنيتها التحتيّة؛ لأنّها جزء من البنية الاجتماعيّة- السياسيّة للمجتمع الفلسطينيّ؛ لها جذور وامتدادات فيه. أمّا النقاش حول 07 تشرين الأوّل (أكتوبر) ونتائج عمليّة «طوفان الأقصى»، فهو نقاش فلسطينيّ داخليّ، يمكن الخوض فيه بعد الحرب، بغضّ النظر عن المواقف المتفاوتة من العمليّة.
ضرورة المقاربة الأخلاقيّة
في مداخلتها المعنونة بـ «فلسطينيّو 48 والفاعليّة المعاقة»، تناولت عرين هواري مجموعة من الأسباب الّتي ترى أنّها أعاقت الحدّ الأدنى من الفاعليّة السياسيّة لفلسطينيّي 48 في سياق الحرب الحاليّة على قطاع غزّة، أهمّها الملاحقة والمراقبة والمعاقبة من قبل المؤسّسة الإسرائيليّة، وتراجع وضعف الحركة الوطنيّة في أراضي 48، والتفكّك المجتمعيّ الناتج عن تفاقم الجريمة المنظّمة.
ذهبت هواري إلى ضرورة مقاربة الفعل/ اللافعل السياسيّ لدى فلسطينيّي 48 أخلاقيًّا، وإحكام ما هو سياسيّ بهذه المقاربة، تجنّبًا لشرعنة ما لا يُشَرْعَن تحت مبرّر ’التناقضات‘ الّتي يعيشونها، أو ’الخصوصيّة‘ الّتي تجعلهم ذوي وضعيّة استثنائيّة تميّزهم عن مجمل الشعب الفلسطينيّ. تحيل المقاربة السياسيّة غير المحكومة بالأخلاق، إلى الحديث عن التناقض بين المواطنة، والهويّة الوطنيّة، و’الخصوصيّة‘ الّتي من المفترض أن تؤدّي إلى مسؤوليّة أكبر لدى فلسطينيّي 48؛ لأنّهم وإن كانوا ضمن المنظومة الاستعماريّة نفسها، إلّا أنّهم في ’أفضل‘ حيّز سياسيّ فلسطينيّ مقارنة بالضفّة الغربيّة، وقطاع غزّة، والقدس العاصمة، والشتات، والسجون، وهي الحيّز السادس وفق عبد الرحيم الشيخ. إنّ المقاربة السياسيّة غير المحكومة بالأخلاق تجعل ’الخصوصيّة‘ سببًا لتبرير التقصير بدلًا من أن تكون رافعة لتحمّل المسؤوليّة. عادة ما كان يُعَوَّض عن ’الشعور بالذنب‘ من خلال حملات تبرّع لقطاع غزّة أو الضفّة الغربيّة مثلًا، خلال العدوانات الإسرائيليّة وبعدها، وتؤكّد على أنّ تفهمّ ’الخصوصيّة‘ أمر ممكن ومسوّغ سياسيًّا، على أن تكون رافعة لعمل الوطنيّ ولدور نضاليّ، ولا سيّما في ظروف الحرب.
إنّ التناقض ليس بين الهويّة الوطنيّة والمواطنة لدى فلسطينيّي 48؛ إذ إنّ هويّتهم واضحة، والمواطنة ضمن أيّ نظام حقوقيّ ذي عدالة، حقّ لهم بصفتهم أصحاب الوطن، ولا سيّما عندما يطرحون تسوية تاريخيّة تجعلهم يقدّمون تنازلًا، نحو نزع يهوديّة واستعماريّة إسرائيل. إن كان من تناقض صارخ، فهو يكمن بين ثلاثيّة ديمقراطيّة إسرائيل، ويهوديّتها، واستعماريّتها. إسرائيل، مجتمعًا ونظامًا، هي مَنْ تقع عليها مسؤوليّة الإجابة عن كيفيّة التعامل مع هذا التناقض وحلّه. إنّ تبنّي فلسطينيّي 48 فكرة التناقض يجعلها حجّة يُتَّكَأ عليها لشرعنة الإعاقة وقبول بواقع الإسكات. إنّ الهويّة في سياق استعماريّ، إن لم تكن حاملة لمشروع، تتحوّل إلى كاريكاتور هويّاتيّ وكلاشيه رخيص. هوية فلسطينيّ 48 يجب ألّا تكون الزعتر والزيتون، رغم أهمّيّة هذه الرموز، وإنّما الدفاع عن سيادة الشعب الّذي يملك هذه الرموز، في وطنه.
تهاوي الإستراتيجيّات الإسرائيليّة
في مداخلته المعنونة بـ «تهاوي الإستراتيجيّات الإسرائيليّة»، تناول محمود يزبك خمس إستراتيجيّات ذهب إلى أنّها تهاوت منذ عمليّة «طوفان الأقصى» والحرب الّتي تبعتها.
الإستراتيجيّة الأولى تكمن في زعزعة دور المستوطنات الحدوديّة الّتي أقامتها الحركة الصهيونيّة منذ ما قبل النكبة استنادًا إلى مبدأ ’سور وبرج‘ (חומה ומגדל)، وهو حماية الحدود وتوفير الأمن للعمق الإسرائيليّ، بل تحوّلت مستوطنات ما يُعْرَف إسرائيليًّا بمنطقة «غلاف غزّة»، وكذلك تلك القريبة من الحدود اللبنانيّة، إلى عبء اقتصاديّ وأمنيّ على إسرائيل وجيشها.
الإستراتيجيّة الثانية تكمن في إدارة الصراع بدلًا من حلّه، الّتي كرّسها بنيامين نتنياهو، وذلك في ظلّ تعزيز سياسات الاستيطان، والضمّ، والتطبيع مع أنظمة عربيّة، والترويج لفكرة السلام الاقتصاديّ، والسعي إلى إعاقة إقامة دولة فلسطينيّة تمامًا. لقد أعادت الحرب القضيّة الفلسطينيّة إلى الواجهة العالميّة، بصفتها صراعًا يجب أن يُحَلّ.
الإستراتيجيّة الثالثة تكمن في قوّة الردع الإسرائيليّة، حيث الفشل الاستخباريّ والعسكريّ غير المسبوق إسرائيليًّا يوم 07 تشرين الأوّل (أكتوبر)، أو خلال العمليّات العسكريّة في قطاع غزّة الّتي لم تُنْجِز أيًّا من أهدافها سوى التدمير الشامل. وكذلك الأمر في عدم القدرة على التعامل الحاسم مع عمليّات «حزب الله» في الشمال. لقد طوّرت الفصائل الفلسطينيّة، وكذلك قوًى في المنطقة، قدرات عسكريّة تتحدّى التفوّق العسكريّ الإسرائيليّ المدعوم أمريكيًّا. ترتبط بذلك إستراتيجيّة رابعة تهاوت، وهي القوّة اللامحدودة؛ إذ إنّ الحرب تثبت، بعد ما يزيد عن 100 يوم من بدئها، أنّ قوّة إسرائيل وحلفائها محدودة في ترسيم ملامح المنطقة، ومن ضمنها فلسطين.
الإستراتيجيّة الخامسة تكمن في توظيف إسرائيل الهولوكوست لشرعنة سياساتها الاستعماريّة الاستيطانيّة، ولكسب تعاطف دول العالم، ومنع أيّ نقد لها. لقد أدّت ممارساتها في هذه الحرب إلى تعاظم النقد لها والتضامن مع الفلسطينيّين، وقد وصلت إلى «محكمة العدل الدوليّة» لتُقاضى أمامها بتهمة الإبادة الجماعيّة.
بداية سقوط المشروع الصهيونيّ
في مداخلته الّتي عُنْوِنَتْ بـ «نكبة غزّة- البحث عن مستقبل»، قدّم إيلان بابِه قراءة في مجموعة من المؤشّرات الّتي لها أن تؤثّر في مستقبل دولة إسرائيل، بصفتها نظامًا استعماريًّا استيطانيًّا، وذلك في سياق الحرب على قطاع غزّة، نحو ما اعتبره "بداية سقوط للمشروع الصهيونيّ في فلسطين".
المؤشّر الأوّل احتدام الصراع ما بين ’دولة إسرائيل‘ و’دولة يهودا‘ أكثر؛ إذ إنّ الأولى تمثّل الشرائح الليبراليّة العلمانيّة الّتي لديها استعداد لمواصلة اضطهاد الفلسطينيّين، والثانية تمثّل مستوطني الضفّة الغربيّة ومؤيّديهم، الساعين إلى تحويل الدولة إلى دينيّة أكثر، وتقليص أعداد الفلسطينيّين قدر الإمكان عبر سياسات التطهير العرقيّ. إنّ الإسمنت الجامع لكلا الطرفين كان عادة ’التهديد الأمنيّ‘، لكن يظهر أنّه لن يعمل كما كان في السابق حتّى في سياق الحرب، وهذا سيؤثّر في مستقبل إسرائيل وسياساتها.
المؤشّر الثاني حجم التضامن العالميّ غير المسبوق مع الفلسطينيّين وقضيّتهم خلال الحرب، الّذي له أن يكون رافعة لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات BDS مستقبلًا. ينضاف إلى ذلك تأطير إسرائيل بصفتها نظام فصل عنصريّ من قبل عدد من المنظّمات غير الحكوميّة الوازنة. هذه الحالة يمكن أن تدفع نحو التوجّه من إستراتيجيّة "المقاطعة" نحو "فرض العقوبات"، وهو الأمر غير المُنْجَز على نحو كبير حتّى الآن.
المؤشّر الثالث تراجع وضع إسرائيل الاقتصاديّ مستقبلًا، على المستويين الجزئيّ والكلّيّ، حيث يُتَوَقّع تراجعها عن أن تكون "منجمًا اقتصاديًّا" للشركات متعدّدة الجنسيّات والمستثمرين الدوليّين؛ نتيجة دخولها في أزمة اقتصاديّة ناتجة عن الصرف على الحرب وأعبائها الاقتصاديّة. إنّ فقدان إسرائيل لصلابتها الاقتصاديّة، سيدفع تلك الشركات والمستثمرين إلى البحث عن جهات أخرى.
المؤشّر الرابع فشل الجيش الإسرائيليّ في توفير الحماية لمواطني الدولة اليهود، ولا سيّما شماليّ البلاد وجنوبها، ونشوء "أزمة نازحين" داخليّة، بالإضافة إلى فشل أجهزة الدولة في توفير المساعدة الأساسيّة لعائلات القتلى الإسرائيليّين والجرحى والمصابين يوم 07 تشرين الأوّل (أكتوبر) وما بعد ذلك. ليس في المنظور ان يتمكّن الجيش من تحقيق هدف "القضاء على حماس"، ولا يملك إستراتيجيّة للتعامل مع حزب الله في الشمال، ويبدو أنّ المشروع النوويّ الإيرانيّ لا يشكّل تهديدًا وجوديًّا لإسرائيل. هذه الأمور مجتمعة ستدخل إسرائيل في "أزمة أمنيّة".
المؤشّر الخامس وجود جيل جديد من اليهود حول العالم، ولا سيّما الولايات المتّحدة، لا يعتقدون بأنّ إسرائيل مأمن ليهود العالَم في سياق خطاب معاداة الساميّة، وعدد غير قليل منهم ينشطون في حركات التضامن العالميّة مع الفلسطينيّين. هذا يعني أنّ اللوبي المؤيّد لإسرائيل سيتّجه في حال استمرار هذه الحالة وتزايدها إلى فقدان تأييد الجيل اليهوديّ الجديد، لينحصر هذا التأييد في الأصوليّة المسيحيّة أكثر فأكثر.
لمشاهدة فيديو الندوة، انقر على الصورة أدناه