برنامج علم النفس التحرّريّ/
أحداث / أمل يحرّر النفس: الحرب في الغرفة العلاجيّة وخارجها | ملخّص اللقاء الثانيعقد «برنامج علم النفس التحرّريّ» في «مدى الكرمل- المركز العربيّ للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة»، اللقاء الحواريّ الثاني لاختصاصيّين ومعالجين نفسيّين ضمن سلسلة لقاءات بعنوان «الحرب في الغرفة العلاجيّة وخارجها»؛ للحديث عن التجارب المهنيّة والإنسانيّة للعاملين في الصحّة النفسيّة حول الحرب الحاليّة على قطاع غزّة، وانعكاساتها في الغرفة العلاجيّة وخارجها.
تهدف هذه اللقاءات إلى خلق مساحة آمنة للحوار والتشارك، وإلى تحدّي سياسات الإخراس الّتي تُمارَس ضدّ المجتمع الفلسطينيّ، وخلق نوع من التكافل المجتمعيّ الّذي يُعَدّ من أهمّ آليّات الدعم والمساندة لتعزيز الحصانة النفسيّة المجتمعيّة وتخطّي الأزمات.
عُقِدَ هذا اللقاء بالتعاون مع «رابطة السيكولوجيّين العرب»، وقد أداره الاختصاصيّان النفسيّان العياديّان مصطفى قصقصي ويعاد غنادري- حكيم، وهما عضوان في اللجنة التوجيهيّة لـ «برنامج علم النفس التحرّريّ» في «مدى الكرمل»، وعضوان مؤسّسان لـ «رابطة السيكولوجيّين العرب».
طُرِحَتْ خلال اللقاء تساؤلات تعكس روح المرحلة وتحدّياتها، مثل: ماذا يعني أن نكون معالجين فلسطينيّين في هذه المرحلة؟ وكيف يمكن أن نساهم في التعافي التحرّريّ الفرديّ والجمعيّ؟ كيف لنا بصفتنا مهنيّين فلسطينيّين أن نخلق مساحات اقتدار ولّادة في مجابهة أفعال الإبادة؟ كيف نساهم في مَرْكزة الفعل المعرفيّ كحيّز لتثبيت الوجود مقابل محاولات تثبيط الحياة؟
كيف نجد الكلمات؟
افتتحت اللقاء مركّزة «برنامج علم النفس التحرّريّ» في «مدى الكرمل»، المعالجة النفسيّة إيناس عودة- حاجّ، قائلة: "إزاء الواقع الصعب المشترك الّذي نعيشه، معالجين ومتعالجين، والّذي من الطبيعي أن يخترق جدران غرفنا العلاجيّة، نحاول أن نطوّر عدسات ثنائيّة الاتّجاه؛ عدسة تتّجه إلى داخل النفس البشريّة وما تعيشه من مشاعر وأفكار وألم وأمل؛ وعدسة أخرى تربط ذلك مع الخارج: الواقع السياسيّ الصعب الّذي نعيشه وإسقاطاته على نفوسنا أفرادًا وجماعة. كما نحاول توفير مساحات مشتركة للتفكير والحوار تكون فعلًا مضادًّا لسياسات الإخراس، نفكّر من خلالها في كيفيّة موقعة أنفسنا ضمن تجارب شعبنا لنصوغ وعيًا جديدًا يربط بين الفرديّ والجمعيّ، ويزرع بذورًا من الأمل، رغم كلّ الألم، يقاوم مشاعر اليأس والعجز المجتمعيّة الّتي نراها ونعيشها، ويعزّز الشعور بالوكالة والفاعليّة والاقتدار. نبحث معًا في هذه اللقاءات حول كيفيّة تعزيز ذاتيّتنا وذاتيّة متعالجينا، وتعزيز القدرة على التفكير المستقلّ والشعور والفعل رغم الملاحقة وسياسات الإسكات المُسْقَط، لئلّا يتحوّل إلى إسكات مُذَوَّت من شدّة الخوف واليأس. نتساءل معًا كيف نعيد استحضار ذواتنا الفاعلة لا ذواتنا القامعة، خوفًا أو تماهيًا مع القامع كآليّة نجاة؟ كيف نجد الكلمات والعبارات لصوغ روايتنا بلغة مشتبكة وغير حياديّة، ولكنّها في نفس الوقت مهنيّة وأخلاقيّة؛ فالأخلاق وقيم العدالة والحرّيّة أساس الصحّة النفسيّة للفرد وللمجتمع".
استشراف مواقع الأمل
بعد الافتتاحيّة، قامت بروفيسور نادرة شلهوب- كيفوركيان، المحاضِرة في علم الإجرام وعضو اللجنة التوجيهيّة لـ «برنامج علم النفس التحرّريّ» في «مدى الكرمل»، بتقديم تأطير نظريّ في مداخلة بعنوان «بين أمل/ ألم التحرّر والشعور بالجمود الوجوديّ».
في مداخلتها، شرحت شلهوب- كيفوركيان كيف تشكّل آلامنا وتجارب الفقد نوعًا من الجمود الوجوديّ الّذي فيه الكثير من اللا-يقين وعدم معرفة إلى أين نحن ذاهبون. من هنا، فإنّ علم النفس التحرّريّ يهدف إلى استشراف مواقع الأمل وسط الألم الكبير المعيش يوميًا.
قالت شلهوب- كيفوركيان إنّ النفس الفلسطينيّة مساحة مركزيّة يجب النظر بتمعّن إلى الأحوال المختلفة الّتي تمرّ فيها وتتفاعل معها، وكيف تُسْتَخْدَم من أجل حَوْكَمَة النفس والإنسان ولصهر الوعي بأساليب مرئيّة حينًا وغير مرئيّة أحيانًا، وهذا دور علم النفس النقديّ الأصلانيّ التحرّريّ في فهم وتفكيك آليّات عمل منظومات الهزيمة، للتحرّر ليس فقط من الاستعمار، بل بالأساس من إرث المستعمِر على عقولنا ونفوسنا كما يقول فانون.
وتساءلت شلهوب- كيفوركيان "ما هو مسعانا الفكريّ التحرّريّ؟ هل هو تقفّي المواقع الممكنة لإنتاج الأمل لدى المتألّمين؟ كيف نتحدّى البنى المؤسّساتيّة الّتي تعمل على قتل مواقع الأمل في نفوس المتألّمين؟ علينا أن نفكّر في كيفيّة إعادة مَرْكَزَة الأمل في واقعنا المليء بالألم".
وأنهت شلهوب- كيفوركيان مداخلتها بالتشديد على ثلاثة أمور ضروريّة للتصدّي للمنظومة الاستعماريّة في السطو على النفس الفلسطينيّة: أوّلا، توطين المعرفة من خلال تحليل منهجيّات السيطرة على النفس منطلقين من قراءتنا الأصلانيّة للواقع وتحليله؛ ثانيًا، الحاجة إلى التعمّق في التفاصيل: المحكيّ منها وغير المحكيّ، المرئيّ وغير المرئيّ، المحصى وغير المحصى؛ وثالثًا، التأكيد على تعميق مواطن الأمل من خلال اللقاءات التحليليّة المشتركة والتواصل التحليليّ الّذي يحتّم علينا تطوير علم النفس الاجتماعيّ للحياة.
ماذا سنروي؟ مَنْ سيروي؟
تلا المداخلة النظريّة استعراض للأفكار الّتي جرى تبادلها في اللقاء الماضي، حيث قامت بجمعها وتقديمها يعاد غنادري- حكيم، الّتي أشارت إلى أنّنا بدأنا من سؤال الرواية: ماذا سنروي؟ مَن سيروي؟ هل لتابعٍ أن يروي؟ وماذا سيبقى من الرواية بعدنا؟ ثمّ انتقلنا إلى سؤال الرؤية والرؤيا، فحضرت غزّة بجداريّة كُتِبَتْ على أحد أسوارها فاستصرخَتنا: "أنا أراك فهل تراني؟" فصارت دعوة للتفاكر معًا حول ما نرى وما نريده أن يُرى في زمن لم نَعُدْ فيه قادرين على إطالة النظر. وأضافت غنادري- حكيم: "تحدّثنا عن الذاكرة وهل ستبقى ما بقينا، وعن التاريخ والتأريخ وعن حصار الجغرافيا والجسد وعن شرطة المشاعر الّتي ما انتصرت إلّا في حدقات ناظر ساذج؛ فالدواخل الّتي حفظت الرواية صارت مكثّفة بالذكريات والرغبات والأحاسيس الّتي التقطت اهتزازاتِها الدقيقة غرفنا العلاجيّة، بعد أن كثّفتها النفوس، فكان أن ولّدت محاولات الإسكات مساحات كلام شديدة الاحتقان والرقّة والدقّة". وقد أنهت كلمتها بالربط بين اللقاء السابق والحاليّ: "كان اللقاء الماضي حيّزًا حضرت به رغبة جارفة لاسترداد بيت طال حنيننا إليه في زمن اللا-بيتيّة. كنّا قد اقتربنا من الهاوية، فنظر أحدنا إلى الآخر ووجدنا أنفسنا هناك في حدقاته، فاتّخذنا قرارًا جمعيًا بالعبور الانشطاريّ بين الروح والجسد، بل باللقاء بينهما وبيننا. قابلنا المحوَ بالتكافل، والتقينا كفعل تحرّرٍ وبقاء. واجتماعنا اليوم هو وعد بغد جديد، نتموضع به ناسجين للرواية".
أمل يحرّر النفس
ولخّص مصطفى قصقصي فاتحًا الباب لمداخلات الزميلات والزملاء ومساهماتهنّ/ م: "هل يمكننا إذن الحديث عن معالجين مشتبكين؟ عندما يكون الزمن زمن إبادة، والحديث عن إبادة النفس والذاتيّة وليس فقط إبادة الجسد، كيف يمكننا أن ننتج الأمل؟ وعن أيّ أمل نتحدّث؟ هنالك أمل رأسماليّ سطحيّ قمعيّ، وهنالك أمل يحرّر النفس من براثن اليأس ويعزّز ذاتيّتها الفاعلة، وهو ما يجب أن نبحث عنه".
ثمّ كانت مداخلات ومساهمات من جمهور الحاضرين، وقد أجمعت المداخلات على أهمّيّة مثل هذه اللقاءات ورياديّتها، كون الحيّز الّذي يتيحه «برنامج علم النفس التحرّريّ» في «مدى الكرمل» حيّز آمن في زمن الإسكات والملاحقة والإبادة.
كما أجمع الحاضرون على أهمّيّة إنتاج معرفة بديلة تقرأ وتحلّل اللحظة الراهنة وتستشرف المستقبل من وجهة نظر أصلانيّة نقديّة، كما توفّر اللغة والمفردات لصوغ الرواية بشكل يحارب ثقافة اليأس والعزلة، ويعزّز مواقع الأمل نحو فاعليّة أكبر للمجتمع ولأفراده.