برنامج علم النفس التحرّريّ/

أحداث / الحرب في الغرفة العلاجيّة وخارجها اللقاء الثالث
big-img-news
بواسطةMada Admin | 19 يونيو 2024

الحرب في الغرفة العلاجيّة وخارجها اللقاء الثالث

"اللا_بيتيّة الفلسطينيّة: تداوُلاتها في الحيّز العلاجيّ في ظلّ النظام الاستعماريّ"

عقَدَ برنامج علم النفس التحرُّريّ في مركز مدى الكرمل اللقاء الثالث من ضمن سلسلة لقاءات لمجموعة معالِجين ومعالِجات ترمي إلى التفاكر والتباحث في آثار حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على أهلنا في غزّة وتداعياتها، وفي آثار سياسات القمع والإسكات التي يتعرّض لها المجتمع الفلسطينيّ في مناطق الـ48.

وخلال اللقاء، قدّمت السيّدة إيناس عودة – حاجّ، مركّزة برنامج علم النفس التحرُّريّ في مدى الكرمل، كلمة افتتاحيّة صاغت من خلالها الإطار والسياق الـمُعاش على المستويَيْن الفرديّ والجمعيّ. كذلك قدّم السيّد طوني حدّاد، المحلّل النفسيّ، محاضرة "اللا_بيتيّة الفلسطينيّة: تداوُلاتها في الحيّز العلاجيّ في ظلّ النظام الاستعماريّ"، ثمّ شارك المشاركون والمشاركات أفكارهم وتجاربهنّ المتعلّقة بمفهوم اللا_بيتيّة. أدارت اللقاءَ السيّدة نجلاء عثامنة، المعالِجة النفسيّة والمشْرِفة وعضوة اللجنة التوجيهيّة لبرنامج علم النفس التحرُّريّ.    

قالت السيّدة إيناس عودة - حاجّ في كلمتها الافتتاحيّة: نجتمع اليوم وقد مرّ على حرب الإبادة الجماعيّة التي تشنّها إسرائيل على أهلنا في غزّة ثمانية أشهر. كذلك إنّ هذا اللقاء يأتي عشيّة ذكرى النكبة المستمرّة التي يمرّ فيها شعبنا الفلسطينيّ منذ عام 1948، كما اعتدنا تسميتها، للتدليل على أنّ تداعيات وآثار النكبة يعيشها شعبنا باستمرار منذ عقود. على هذا النحو كنّا نرى شهر أيّار: أيّار النكبة؛ أيّار التهجير؛ أيّار الصمود؛ أيّار حلم العودة. ولكن هذه السنة يأتي أيّار مختلفًا. يأتي وأبناء وبنات شعبنا يعيشون في ظلّ الإبادة. نشهد ونعيش في هذه الأيّام كلّ ما كنّا قد سمعناه من أهالينا واعتقدنا أنّه من ورائنا، فإذا به يتكرّر بكلّ قسوته وفظاعته أمام أعيننا، بل بالبثّ الحيّ والمباشر أمام أعين العالم كلّه. ويثير فينا مشاعر من الحزن والغضب والعجز وقلّة الحيلة. وعلى الرغم من أنّ غزّة طغت، بحقّ، على المشهد من شدّة فظاعة ما يواجهه أهلها، لكلّ جزء من سائر أجزاء الشعب الفلسطينيّ حصّة من المعاناة والملاحقة والإبادة. ففي الضفّة، يلاحَق الوجود الفلسطينيّ، وتُسرَق الأرض، ويدمَّر الحيّز، ويُنتهَك الجسد الفلسطينيّ قتلًا واعتقالًا وإذلالًا. وفي الداخل، يلاحَق الفعل الفلسطينيّ، والصوت الفلسطينيّ، بل حتّى النفَس الفلسطينيّ. تُلاحَق الكلمة، والموقف، والفكرة، والشعور. تُستهدف الذات الفلسطينيّة برمّتها، كلّ قدرتها على التفكير، على الشعور وعلى الفعل، وذاك نوع من احتلال الحواسّ والمشاعر كما ذكرت زميلتنا الـﭘـروفيسورة نادرة شلهوب-كيـﭬـوركيان. وهنا نستذكر على نحوٍ خاصّ ما حدث مع زميلتنا نادرة (وهي عضوة إدارة في مدى الكرمل، وعضوة في اللجنة التوجيهيّة لبرنامج علم النفس التحرُّريّ). ما حدث مع نادرة بدأ بالتحريض عليها، وامتدّ إلى اعتقالها، وأعقبه إجراء تحقيقات طويلة ومتواصلة لترهيبها وإسكات صوتها الوطنيّ وصوتها الأكاديميّ الرافض للاحتلال والرافض للإبادة التي يتعرّض لها شعبنا في غزّة، والمنادي والداعم للحقّ في الحياة الحرّة الكريمة. نستذكر نادرة ونعرف أنّ ما حدث معها هو العَرَضُ (symptom) لا الظاهرةُ (syndrome). الظاهرة أو الحدث هي الإبادة؛ إبادة جسديّة ونفسيّة ومعنويّة لكلّ ما ومَن هو فلسطينيّ. بالتالي، ما نحاول القيام به من خلال هذه اللقاءات، ومن خلال برنامج علم النفس التحرُّريّ بصورة عامّة، هو نوع من التصدّي لهذه السياسات؛ إذ نلتقي معًا لنواصل العمل الفكريّ الجمعيّ التحرُّريّ الأصلانيّ الموحّد (بفتح الحاء وبكسرها كذلك)، والذي يقرأ القراءة الصحيحة ليقول: نحن هنا وسنبقى. وذلك أنّ هدف الاستعمار، كما يقول فانون، هو إخضاع المستعمَر لا بالجوانب الملموسة سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا فحسب، بل كذلك -وربّما في الأساس- بمحاولة إخضاعه نفسيًّا من خلال العمل على اغتيال ذاتيّته ومحو وجوده وتغريبه عن الحيّز ليشعر بأنّه وحيد ومنعزل. من قلب ديناميّات التغريب التي نعيشها منذ سنوات، ومع تزايد حدّتها في هذه الفترة، نطرح سؤال لقائنا اليوم: كيف يجتمع المألوف والغريب في السياق الفلسطينيّ؟ كيف يجتمع الحميميّ مع الموحِش والمهدِّد الذي يواجهه الفلسطينيّ فرديًّا وجمعيًّا؟ ونسأل: هل هناك لا_بَيْتيّة يعيشها الفلسطينيّ؟ وما هي انعكاساتها داخل الغرفة العلاجيّة وفي المجتمع على وجه العموم؟ كيف نتعامل معها؟ وما هو دَوْرنا كمعالِجين ومعالِجات؟

 

وعمل السيّد طوني حدّاد، المحلّل النفسيّ، خلال محاضرته على تقديم وشرح مفهوم "اللا_بَيْتيّة"، وهو ترجمة للمصطلح الألمانيّ Unheimleiche""، الذي صاغه فرويد خلال مقاله عن اللا_بيتيّة ونُشِر في فترة العامين 1919-1920. والمصطلح الألمانيّ الذي استعمله فرويد يدمج بين مركِّبَيْن: "Heimleiche" الذي يمكن ترجمته إلى بيت أو وطن أو حضن دافئ (أيْ مكان آمن لا يستطيع الغريب أن يدخله أو يخترقه)؛ والمركِّب الثاني هو السابقة "Un" التي تفيد نفي الكلمة أو عكسها، ليَنتج ما اصطُلح على تسميته "اللا_بيتيّة". يقول حدّاد: "إنّ المصطلح يتطرّق إلى تجربة نفسيّة ليست سهلة: تجربة، شيء جميل مألوف قريب دافئ يتحوّل فجأة إلى شيء مهدِّد وغريب". شرح حدّاد الأمر بقوله: "فرويد ميّز بين الخوف "العاديّ" والخوف "اللا_بَيْتيّ"، متسائلًا متى يتحوّل الخوف إلى خوف "لا_بيتيّ"؟ ويقول: "عندما يحوي هذا الخوف مركّبات مألوفة لنا. ويبقى الشعور الغريب إلى أن نعطيه كلمات ونَفهم مَصْدره ونحلّله. نتعرّض لتجربة فيها الظاهر مألوف ولكنّها تحتوي مركّبات مختلفة غير مألوفة غير محبَّبة. معنى هذا أنّ اللا_بيتيّ هو مصطلح يشير إلى ظاهرة تترك شعورًا /إحساسًا غيرَ مريح /مقلقًا يظهر في "حيّز /ظرف" مألوف وحميميّ".

ثمّ تطرّق حدّاد إلى عدد من الـمَحاور اللا_بَيْتيّة التي وضعها فرويد:    

  1. خصي: التجربة اللا_بَيْتيّة تحوي إحساسًا بالخصي، نحو: الإسكات والقمع في فترة الحرب.
  2. إعادة التجربة الـمُرّة المكبوتة منذ الطفولة. في هذه الفترة مثلًا، التعرُّض للترهيب والإسكات يثير مخاوف وقلقًا من تكرار تجارب تعرَّضَ لها الفلسطينيّ في النكبة عام 1948 أو تجارب سابقة تناقلتها الأجيال (اللا_وعي الجمعيّ).
  3. التعامل مع الموت: الخوف من الزوال...

كذلك عرض حدّاد تنظير المحلّلة النفسيّة يولندا جامبيل حول اللا_بَيْتيّة في السياق السياسيّ حيث يخترق الواقع الخارجيّ الحيّز الآمن الداخليّ: في المعتاد، نستخدم الانشطار (splitting)آليّةً دفاعيّةً لنحمي الحيّز الآمن داخلنا، لكن في ظروف عنف سياسيّ صعبة -كالحروب على سبيل المثال- يرغمنا الواقع الخارجيّ على القيام بعمليّة الدمج integration))، وهنا تَحْدث "تروما" فيها تختلط أجزاء آمنة بمركّبات غير آمنة من الخارج قد تجعل الإنسان يتصرّف على نحوٍ عنيف. تدّعي جامبل أنّه عندما تكون التجربة مرويّة على صعيد المجموعة في الإمكان علاجها. ولكن عندما لا تجري مشاركة التجربة، أو حين يجري إسكاتها، تتحوّل هذه (التجربة) إلى تجربة مشعّة تنتقل عبْر الأجيال، وبِذا تنتقل التجربة اللا_بيتيّة كذلك من جيل الكبار إلى الأجيال اللاحقة. وهنا في الإمكان استذكار أنّ التجارب التي مرّ بها أهلونا في عام 1948 لم تُسرَد. انتقل اللا_محكيّ إلينا، ونحن نكمل معايشته، وإنْ لم يجرِ سرده في هذا الجيل يمكن له أن ينتقل إلى الجيل القادم.

ثمّ شارك الحاضرون بتوجُّهاتهم ومداخلاتهم التي تطرّقت إلى تجارب لا_بَيْتيّة في سياق المجتمع الفلسطينيّ عمومًا، وسياق المجتمع الفلسطينيّ العلاجيّ على نحوٍ خاصّ، نحو: اللغة العربيّة والتغريب عنها وتشويهها؛ التوجُّه العلاجيّ الكلاسيكيّ مقابل توجُّه العلاج النفسيّ التحرُّريّ؛ التغريب عن مركّبات الهُويّة؛ التغريب عن الحيّز وتشويه تجربتنا مع المدن والقرى الفلسطينيّة حتّى على صعيد التسميات. كذلك جرى التطرُّق إلى أهمّيّة الكتابة والتوثيق لإيصال صوتنا وسرديّتنا كآليّة للتصدّي ثمّ للتعافي من تجربة اللا_بيتيّة.

 

الاكثر قراءة