برنامج علم النفس التحرّريّ/
أحداث / سمينار "الصحّة النفسيّة في السياق الفلسطينيّ -مقارَبة تحرُّريّة" اللقاء الخامسعُقِدَ يوم السبت الأخير من شهر أيلول /سبتمبر اللقاءُ الخامس من سمينار "الصحّة النفسيّة في السياق الفلسطينيّ – مقارَبة تحرُّريّة"، وكان عنوانه: غزّة والقدس بين الإهالة والتشليء – قراءة نقديّة تحرُّريّة". قدّمت اللقاءَ الـﭘـروفيسورة نادرة شلهوب-كيـﭬـوركيان، الأستاذة والباحثة في شؤون الاستعمار وعلم النفس المقاوِم في جامعة ﭘـرينستون في الولايات المتّحدة وجامعة جنوب أفريقيا.
افتتحت اللقاءَ السيّدة إيناس عودة-حاجّ، فطَرحت أسئلة نقديّة حول الوضع الذي نعيشه اليوم في ظلّ عنف وتوحُّش الدولة الذي بات يغيّر حتّى مفهوم الموت كما كنّا نعهده كمفهوم كلّيّ ويحوّله إلى تقطيع وتشويه وأشلاء. فكما يجري تشليء الجسد الفلسطينيّ، كذلك يجري تشليء النفس الفلسطينيّة. وقالت: "الإهالة التي نشعر بها ونعيشها تشكّل اختراقًا لكلّ مساحات حياتنا وتفاصيلها، فنشعر بإنهاك لكلّ تفاصيل حياتنا وعائلاتنا ومساحاتنا الحميميّة ومشاعرنا وخوالجنا. إزاء هذا الإنهاك، نحاول لملمة أنفسنا فرديًّا وجمعيًّا من خلال هذه اللقاءات. نلملم بعضنا بعضًا للمؤازرة والتفاكر معًا نحو إنتاج لغة ومفردات وتأطير ومعرفة تنطلق كلّها من تجربتنا. فالاستعمار يحاول أن يفرض علينا معرفة تُشْبِهه وتخدم مصالحه. أمّا قراءتنا النقديّة، فتُنتِج معرفة مختلفة ولغة تحرُّريّة وهي بهذا المفهوم فعل مقاوم".
ثمّ كانت المداخلة الرئيسيّة للـﭘـروفيسورة نادرة شلهوب-كيـﭬـوركيان التي شدّدت هي كذلك على أهمّيّة فعل "اللملمة" في مقابل التشليء كفعل مقاوم لصَوْغ ومَفْهَمة الإبادة في فلسطين. وتساءلت: كيف لنا أن نصوغ تحليلًا فكريًّا نقديًّا ونحن نرى ونعيش كلّ هذه الوحشيّة والتوحُّش؟ وقالت إنّ لنا دَوْرًا مهمًّا يتمثّل في التفاكر وأن نتبادل بعضنا من بعض تَعلُّمَ الكيفيّة التي بها تشكِّلُ مواقعُ الألم والجمود الفكريّ محرّكًا مركزيًّا في علم النفس التحرُّريّ لاستثارة الأخيلة المستقبليّة نحو الانعتاق من الألم ولملمة الجروح.
وتطرّقت إلى أهمّيّة مَفْهَمة علم النفس في فلسطين كفعل مشتبك مقاوم: أوّلًا هو مقاوم للتشظّيات بمستوياتها المختلفة- الجسد والأرض والهُويّة والإنسان، والنفس هي جزء لا يتجزّأ من التشظّيات الفلسطينيّة؛ وثانيًا هو مقاوم للقراءة القرصانيّة التي تنظر بشكل مقطعيّ منزوع السياق. وشدّدت على أنّ علم النفس المقاوم لا يمكن أن يُبنى بالاعتماد على النظريّات فحسب، بل عليه أن يكون ذا مسلكيّات عمليّة تنبع من تجارب الناس اليوميّة على الأرض.
ثمّ شرحت شلهوب-كيـﭬـوركيان مفهوم الإهالة كجهاز ناشط وديناميكيّ يحكم ويعمل بعدّة طرق وأشكال منها المحسوبةُ والمخطَّطة، ومنها الفوضويّةُ والعشوائيّة غير المنظَّمة. وتعمل هذه الإهالة من خلال هياكل عسكريّة، وكذلك تُفعَّل كجهاز حربيّ من خلال قوانين وإجراءات بيروقراطيّة تستهدف النفس الإنسانيّة والكيان الجمعيّ الفلسطينيّ بغية تقطيع الأوصال والتشتيت والتغريب عن الحيّز والبيت والأحبّاء. وتحدّثت عن مركزيّة الإماتة في الإهالة، وقرنت بين ما يحدث في القدس منذ سنوات وما يحدث في غزّة كجزء من نفس العقيدة الاستعماريّة. وشرحت كيف أنّ سياسات الإماتة تأخذ أشكالًا مختلفة مرئيّة ومبطَّنة: في السياسات الديمـﭼـرافيّة للتهويد والإقصاء؛ في السياسات التخطيطيّة للهدم ونصب الحواجز؛ في سياسات القمع والاعتقالات للشباب ونزع الطفولة؛ في سياسات القتل المتعدّدة وحجز الجثامين؛ في السياسات التوراتيّة وقلب المقابر والبيوت الفلسطينيّة إلى حدائق توراتيّة؛ ومؤخَّرًا في غزّة ما سمعناه من استخدام مصطلح "عماليق" التوراتيّ لإماتة الفلسطينيّ وتصويره كمن لا حقّ له في الحياة.
كذلك تطرّقت شلهوب-كيـﭬـوركيان إلى عدد من المنظّرين الفلسطينيّين والعالميّين، فشدّدت على أهمّيّة أن يكون الاختصاصيّ النفسيّ "مثقَّفًا مشتبكًا" (على حدّ تعبير باسل الأعرج). واستذكرت وليد دقّة ومفهوم "صَهْر الوعي" بأساليبه المرئيّة وغير المرئيّة كمورد ليس فقط لحَوْكمة الأرض والجغرافيا، بل لحَوْكمة النفس أيضًا، وقرنته بفرانز فانون الذي قال إنّ المستعمِر يستهدف هزيمة النفس من أجل تكوين عقليّة كولونياليّة دونيّة لدى المقهور. كذلك استذكرت السرديّات وحقّنا في سرديّتنا على نحوِ ما قال إدوارد سعيد، حيث إنّ سرديّتنا هي حماية تاريخنا وحياتنا في حين أنّ سرديّتهم هي إعادة خلق التاريخ والجغرافيا من خلال المحو وتقطيع الأوصال.
وأنهت شلهوب-كيـﭬـوركيان بقولها إنّه بين سياسات الإهالة والتشليء يكمن التحدّي لنا، وهو تحدّي الصمود بواسطة اللملمة على نحوِ ما علّمتنا غزّة. اللملمة والتفاكر لتسمية الأمور وتأطيرها نقديًّا وأصلانيًّا وعدم قبول التوجُّهات والتسميات الاستعماريّة. "ما نراه اليوم هو أنّ أجساد وحيوات الفلسطينيّين ليس لها وجود. هذا التغريب الوجوديّ وقراءته الصحيحة هو عدسة تُمكِّننا من فَهْم استعمار وجوديّتنا ويرتبط باستعمار العقول والمعرفة. لملمة بعضنا هي فعل مقاوِم يساعدنا على الصمود والتفكير والحلم بمستقبل أفضل. في هذا الصدد قال عبد الرحيم الشيخ: "لا يحلم الناس إلّا لِمامًا".
وفي نهاية اللقاء، دار نقاش بين المشاركين حول دَوْرنا كفلسطينيّين وكمعالجين في ظلّ كلّ هذه الإهالة والتوحُّش. ورأى المشاركون أنّ دَوْرنا في أنْ نسهم في التصدّي للتمثيل في الجسد والنفس، وأن نساعد الناس على التماثل للشفاء والتعافي من خلال قراءة ومَفْهَمة صحيحة للتحدّيات التي تواجههم كأفراد وللحالة الفلسطينيّة عمومًا.