عقد «مدى الكرمل- المركز العربيّ للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة»، اللقاء الثالث من «سمينار ومنح لدعم طلبة الدراسات العليا» لعام 2024، الّذي تناول الناظم النظريّ وضرورته في البحث العلميّ، من خلال مناقشة نصّ من كتاب «المقدّمة» لعالم العُمران عبد الرحمن بن خلدون (1332-1406).
قدّم الباحث في العلوم السياسيّة ومدير برنامج السمينار، مهنّد مصطفى، مداخلة حول السمات الأهمّ في إسهام ابن خلدون المعرفيّ في تاريخ الحضارة العربيّة الإسلاميّة والإنسانيّة، الّذي ما يزال أثره مستمرًّا إلى اليوم.
موجز أهمّ ما جاء في اللقاء:
الإسهام المركزيّ لدى ابن خلدون أنّه خرج عن الالتزام بمنهجيّة السرد التاريخيّ التتابعيّ، وهي الّتي كانت سائدة لدى أغلب مَنْ سبقه وعاصره من مؤرّخي الحضارة العربيّة الإسلاميّة، واتّجه نحو إنتاج قوانين وقواعد تاريخيّة مستقاة من الاستقراء النظريّ لهذا السرد؛ فقد قرأ الأحداث التاريخيّة ليس فقط قراءة مؤرّخ، وإنّما قراءة عمرانيّة (سوسيولوجيّة) وتأريخيّة، واستنبط منها قواعد تاريخيّة وعمرانيّة وسياسيّة، وكذلك في الأناسة (علم الإنسان).
استخدم ابن خلدون مصطلحات مركزيّة في إنتاج القواعد التاريخيّة، أهمّها "العُمران"، و"العصبيّة"، والتفرقة بين بيئة "البداوة" وبيئة "الحضر/ المدنيّة". تُعَدّ هذه المفاهيم مرافقة لقراءات ابن خلدون التاريخيّة، ومحاولة إدراكه لها من خلال المَفْهَمَة؛ أي وضع للمفاهيم، وأيضًا إيجاد قوانين تاريخيّة عامّة، تساعدنا في فهم أحداث تاريخيّة معيّنة إن ارتبطت بعوامل محدّدة.
لم يكتب ابن خلدون «المقدّمة» في أوج الازدهار الحضاريّ العربيّ الإسلاميّ، وإنّما في القرن الرابع عشر الميلاديّ، حيث كانت الحضارة العربيّة الإسلاميّة في تراجع نسبيّ في الإنتاج المعرفيّ، وقد كان من دوافع وضعه للقوانين التاريخيّة، فهم ما حدث لهذه الحضارة ومجتمعاتها من تراجع.
يحدّد ابن خلدون خطًّا في فهم التاريخ العربيّ الإسلاميّ، وهو العلاقة ما بين العصبيّة والعقيدة؛ إذ يرى أنّ التنظيم الاجتماعيّ والسياسيّ في هذا التاريخ، وبناء المؤسّسات، ناتج عن التلاقي بينهما. ما يزال باحثون حتّى يومنا هذا، ولا سيّما في حقل التاريخ، يسعون إلى فهم الظواهر وأنماط التنظيم السياسيّة والاجتماعيّة، قديمها وحديثها، من خلال مفهومي العصبيّة والعقيدة.
لدى ابن خلدون مراحل للتطوّر الحضاريّ؛ هناك مرحلة صعود، ثمّ مرحلة ترف، ثمّ مرحلة انحدار. هذا الطرح يمثّل أحد القوانين الّتي وضعها، لكن ليس باعتباره قانونًا حتميًّا؛ لأنّ لكلّ مرحلة شروطًا لا بدّ من توفّرها لكي تحصل وتؤدّي إلى ما يعقبها.
ما الرابط بين «المقدّمة» والحقل النظريّ؟
ابن خلدون مثل الباحث المعاصر، أو طالب العالم، حيث التعرّض إلى ظاهرة معيّنة لا يمكن أن يقتصر على وصف تفاصيلها من أجل فهمها. الوصف يمثّل المنهجيّة الّتي كانت تُعْتَمَد بالأساس لدى مؤرّخي الحضارة العربيّة الإسلاميّة عمومًا، بتفصيل شديد الإسهاب يُغْرِق. إن لم يكن هناك ناظم ما، فإنّ الباحث سيبقى في الطبقة الوصفيّة، والناظم في البحث هو الحقل النظريّ، ومن خلاله تكون محاولة فهم التفاصيل، وفي ذلك تكمن أهمّيّة الحقل النظريّ وضوابطه.
إن اتّخذنا من الشعبويّة في إسرائيل ظاهرة بحثيّة مثلًا، فإنّه يمكن الاكتفاء بوصف تفاصيل الظاهرة، كما فعل مؤرّخون وصفيّون مثل ابن كثير، والطبري، والمقريزي، وغيرهم؛ إذ وصفوا الأحداث وصفًا مسهبًا، ومن ضمن ذلك أفعال طبقة الحكّام، والمعارك، وما حدث في سنوات معيّنة... إلخ. لكن ثمّة طبقة ثانية، تكمن في الذهاب إلى الحقل النظريّ المتعلّق بالموضوع، لتستقي منه الناظم الّذي من خلاله يمكن فهم ظاهرة الشعبويّة. الناظم قد يكون مَفْهَمَة، أو ادّعاءات باحثين، أو حالات دراسيّة حول الظاهرة في أماكن أخرى، أو قوالب، أو حالات سابقة. من خلال هذا الناظم النظريّ تُفْهَم الشعبويّة في إسرائيل.
أمّا الطبقة الثالثة، فتكمن في منهجيّة ابن خلدون؛ فعندما جاء إلى الحقل التاريخيّ، لم يكن لديه الناظم النظريّ الّذي يسعفه في كيفيّة قراءة التاريخ وفهمه. أغلب المدوّنات السابقة له، كُتِبَت وأُنْتِجَت من دون ناظم، وصفيًّا؛ لذا انتقل بفعل الواقع والحاجة إلى الطبقة الثالثة، التنظيريّة.
في البحث الاجتماعيّ أو السياسيّ، وغير ذلك، لدينا حقول نظريّة قائمة. الطبقة الثالثة تكمن في إنتاج ناظم من خلال البحث، لكنّنا لا نستطيع أن ننتج ناظمًا نظريًّا، أو مساهمة نظريّة، أو فهمًا نظريًّا، أو مقولة نظريّة، من دون الاطّلاع على الحقل النظريّ القائم، وهذا هو الهدف في النهاية، أن نقدّم مساهمة نظريّة. الطبقة الثالثة بمثابة اتّكاء على الحقل النظريّ القائم والمساهمة في إنتاج نظريّة أخرى.
إذن، هدف الباحثين المساهمة في تقديم مقولات نظريّة، ولا سيّما في حالات الإنتاج البحثيّ والمعرفيّ لدى مجموعات لديها مشروعات تحرّر، أو واقعة تحت الاضطهاد. في هذه الحالة، الإنتاج النظريّ أو المساهمة النظريّة تكون ضرورة اجتماعيّة، حيث لا تقتصر مهمّة البحث العلميّ والإنتاج المعرفيّ على الفهم فقط، وإنّما البحث عن العدالة أيضًا. المقولة النظريّة لا تكون مساهمة أكاديميّة فقط، وإنّما أيضًا مساهمة اجتماعيّة.
يتّخذ بعض الباحثين من نظريّة ما نموذجًا، ثمّ يعملون على ليّ عنق الظاهرة القائمة في الواقع لكي تتلاءم مع النظريّة. هذه المنهجيّة تمثّل مستوًى أوّليًّا من الطبقة الثانية بحثيًّا، المُشار إليها سابقًا. يمكن لباحث آخر مثلًا، أن يختار ثلاثة توجّهات، ويعمل على قراءة ظاهرة معيّنة من خلالها، وهذا أمر مركّب أكثر، وفيه اجتهاد أكثر، لكنّه يبقى أيضًا في حدود الطبقة الثانية.
يكتفي كثير من الباحثين بالمنهج الكمّيّ، فالمهمّة هنا أسهل، لأنّها تقتصر على تحليل للمعطيات الكمّيّة. هذا لا يعني أنّ المنهج الكمّيّ غير مهمّ، فالمناهج والمعادلات الكمّيّة تطوّرت كثيرًا، وثمّة الكثير من المجلّات في العلوم السياسيّة تعتبر البحث الكمّيّ أهمّ من النوعيّ. هناك أبحاث كمّيّة جدّيّة، حيث الأداة الكمّيّة تُنْتَج من قلب الحقل النظريّ. حتّى القراءات الكمّيّة يمكن أن تقدّم مساهمة نظريّة ما.
إنّ الاستمارات البحثيّة، أو الاستبانات، لا تكون أسئلتها محايدة؛ إذ هي نفسها تمثّل مقولة نظريّة ما. ويمكن أن يدمج البحث بين المنهج الكمّيّ والكيفيّ.