عقَدَ مدى الكرمل- المركز العربيّ للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة مؤتمرَه السنويّ لعام 2025، تحت عنوان "الحرب على غزّة وإعادة التفكير في دَوْر الداخل الفلسطينيّ: المجتمع، والحقل الأكاديميّ والسياسيّ"، يوم السبت الـ 29 من تشرين الثاني (2025) في مدينة الناصرة.
في الكلمة الترحيبيّة التي ألقتها أُمْنِيَة زعبي، شدّدت على أنّنا نعيش لحظة فلسطينيّة غير مسبوقة، تتقاطع فيها حرب الإبادة في غزّة، ومشروع دولة المستوطنين في الضفّة، والملاحَقة السياسيّة في الداخل. وأكّدت زعبي أنّنا نحتاج، بجرأة، إلى إعادة التفكير في دَوْرنا كفلسطينيّي 48، على مستوى الأداء والخطاب والسلوك، وأنّ هذه اللحظة تفرض مساءلة الصمت والفاعليّة، وإعادة النظر في موقع الداخل الفلسطينيّ ومسؤوليّته الأخلاقيّة والسياسيّة اليوم.
وفي مداخلة د. عرين هوّاري، المديرة العامّة لمدى الكرمل، التي كانت بعنوان "فلسطينيّو الداخل: بين وضوح الإبادة وارتباك الأسئلة"، شدّدت على أنّ اللحظة التي نعيشها تتقاطع فيها الأشياء ما بين وضوحِ ما يجري في غزّة من إبادة، وارتباكِ الأسئلة التي تُثقِل الواقع الفلسطينيّ بأَسْره، متطرّقة إلى استمرار الحرب وما يرافق ذلك من قتل وتجويع واقتحامات، وإلى ما يعيشه الداخل من ملاحَقة ممنهَجة وتفكُّك اجتماعيّ وتفاقم في الجريمة، في سياق سياسيّ تراجعت فيه القدرة الفلسطينيّة والعربيّة على الفعل. ورأت أنّ المرحلة الراهنة تكشف حدود أدوات التحليل التقليديّة، وتضع فلسطينيّي الـ48 أمام حاجة ملحّة لإعادة فحص علاقتهم بإسرائيل وبمشروعهم الوطنيّ، وفَهْم موقعهم ودَوْرهم ومسؤوليّتهم في ظلّ الإبادة. وأشارت إلى أنّه رغم تراجع خطابِ الخوف والصمتِ نسبيًّا خلال العام الثاني وظهور حراكات خجولة وتصاعُد المطالَبة السياسيّة بـِ “محاربة الإبادة”، لم يثمر ذلك مراجَعةً جماعيّة جِدّيّة لسؤال الداخل ومعنى المواطَنة. وشدّدت على أنّ غزّة باتت تشكّل مرجعًا يعيد طرح أسئلة السياسة وخصوصيّة الداخل، وأنّه على المراكز الأكاديميّة والسياسيّة والثقافيّة فتْح مسارات النقاش حول هذه الأسئلة.
وتلتها كلمةٌ من المرشَّحة لنَيْل درجة الدكتوراة في برنامج العلوم الاجتماعيّة في كلّ من جامعة بير زيت وجامعة بروكسل الحرّة (ULB)، ضمن إشراف مشترَك، عروبة عثمان. استكشفت مداخلتها كيف ينمّي الفلسطينيّون في قِطاع غزّة إحساسًا بالمستقبَل والزمن من قلب بنْية الإبادة الاستعماريّة المصمَّمة لتعليق وجودهم بين حاضرٍ لا فكاكَ منه وأفقٍ بعيد المنال. ورغم هذا، في هذه الـمِساحة الحَدّيّة تحديدًا، على نحوِ ما أوضحت عثمان، ثمّة تشكُّل لممارَساتٍ بديلة للصمود والأمل والمستقبَليّات شديدةِ التقاطع والتناقض في آن. بِذا، تتبّعت مداخلتها الطرُقَ التي تصبح فيها تجاربُ الألم الاجتماعيّ اليوميّ التي يعيشها الغزّيّون موقعًا منتِجًا للتخيُّلات المستقبَليّة المتعدّدة التي يأملونها، وتحمل ديناميّاتٍ خاصّةً للعمل والتأثير في حاضر الإبادة والخوف واللايقين العارم الـمُحْدِق بكلّ لحظة يعيشونها. طمحت المداخَلة إلى إرساء قراءةٍ مغايِرةٍ لدراسات الصدمة السائدة التي تختزل الألمَ /الصدمةَ إلى أبعادٍ مَرَضيّةٍ مُوحَّدةٍ يتحتّم القضاءُ عليها وتفريغُ الذات من الإحساس بها، وذلك عبْر إعادة الاعتبار للقراءات السوسيو_أنثروﭘـولوجيّة التي تلتقط فاعليّة مجالات الألم والعواطف إجمالًا.
في نهاية الجلسة الافتتاحيّة، قدّمت المخرجة عايدة قعدان مداخَلة عن فيلمها الوثائقيّ القصير «سيجيء يوم آخَر» (2025)، وهو عمل سمعيّ - بصريّ يجسّد معاناة الفلسطينيّين المكبوتين الذين يعيشون في مناطق الـ48 أثناء ارتكاب إسرائيل للإبادة الجماعيّة في غزّة. يَعْرض الفيلم مجموعة من الأصوات المجهولة مدمَجة في مَشاهد مصوَّرة في فلسطين على مدار عامَيْن من الإبادة، تجسّد ستّة وسبعين (76) عامًا من الحرمان والضياع والتهميش. خلال الجلسة، عرضت المخرجة مقطعًا من الفيلم مدّته ثلاث دقائق.
الجلسة الأولى: فلسطينيّو الداخل بعد سنتَيْن من حرب الإبادة، عرض ونقاش نتائج استطلاع رأي- مدى الكرمل
افتتح الجلسةَ الأولى، التي خُصِّصت لعرض ومناقَشة "فلسطينيّو الداخل بعد سنتَيْن من حرب الإبادة، عرض ونقاش نتائج استطلاع رأي- مدى الكرمل" والتي حملت العنوان "فلسطينيّو الداخل بعد سنتَيْن من حرب الإبادة"، مديرُ برنامج "دراسات عن إسرائيل" في مدى الكرمل، د. امطانس شحادة الذي أدار الجلسة، مشدّدًا على أهمّيّة السياق لفَهْم أيّ استطلاع رأي، وعلى محدوديّة الاستطلاعات في الظرف الحاليّ للمجتمع الفلسطينيّ في الداخل.
قدّم د. سامي محاجنة نتائج استطلاع مدى الكرمل للعام 2025، الذي أُجري في ظلّ الحرب على غزّة وتركَّزَ في موضوعَيْن أساسيَّيْن: تداعيات الحرب على الفلسطينيّين في إسرائيل في الأبعاد السياسيّة والاجتماعيّة والشخصيّة، ونواياهم الانتخابيّة في حال انعقاد الانتخابات، تبعًا لعوامل ديمـﭼـرافيّة وشخصيّة. أظهر الاستطلاع أنّ الفلسطينيّين في الداخل يطوّرون منظومة مواقف تخدم ظرفهم المركَّب أكثر ممّا تعكس ما يُتوقَّع منهم؛ إذ يحصر أغلبهم دَوْرهم تجاه غزّة في الدعم المادّيّ، في انسجام مع مشاعر الخوف المهَيْمِنة، فيما تبقى مواقفهم وسلوكهم غير منسجمة تمامًا. كذلك بيّنَ أنّ الحرب عمّقت الشعور بالعنصريّة والتمييز، وفي الوقت نفسه عزّزت الانتماء والهُويّة الوطنيّة ووسّعت فجوة الخيبة من القيادات والأحزاب، في حين ظلّ الأفق السياسيّ ضبابيًّا: مستقبل غزّة غامض، والحلّ السياسيّ غير محسوم، والتوتّر بين المجتمعَيْن العربيّ واليهوديّ في ازدياد. وعلى مستوى المشارَكة السياسيّة، لا يتوقّع الاستطلاع حدوث تحوُّل جذريّ، بل أن تعود نسبة التصويت إلى ما يقارب 60% كما في العَقدَيْن الأخيرَيْن، مع احتمال ارتفاع محدود في نسبة المشارَكة إذا أُعيد تشكيل قائمة مشترَكة، وبقاء نسبة الممتنعين متراوحة بين 30% وَ 40%.
معقِّبًا على استطلاع الرأي، تناول المحامي وعالِم الاجتماع السياسيّ د. أمير فاخوري، في مداخلته، التحوُّلاتِ الفكريّةَ والسياسيّة في وعي الفلسطينيّين داخل المواطَنة الإسرائيليّة بعد الحرب على غزّة، استنادًا إلى معطَيات ميدانيّة ومقارَبات تفسيريّة حديثة في دراسة القوميّة الثقافيّة. اقترح فاخوري قراءة الواقع الراهن عبْر ثلاث نقاط أساسيّة: أوّلًا، التنوُّع الداخليّ في أنماط القوميّة الفلسطينيّة ضمن المواطَنة الإسرائيليّة، بما يتجاوز الثنائيّة التقليديّة بين “الأسرلة” وَ “الفَلَسْطَنة”. ثانيًا، الانتقال من منطق “الإنقاذ” الذي تمحْوَرَ حول مسؤوليّة الأقلّيّة المواطِنة تجاه “الأمّة الأمّ”، إلى منطق “الإغاثة” القائم على وحدة المعاناة وتآكل الأفضليّة الرمزيّة والوجوديّة التي ميّزت الداخل سابقًا. ثالثًا، الفجوة القائمة بين التحوُّلِ البنيويّ العميق في الواقع السياسيّ والثباتِ الظاهريّ في السلوك السياسيّ. واختتم مداخلته بأن ذكر أنّ المواطَنة الإسرائيليّة لم تَعُدْ فضاءً للحماية أو الفعل السياسيّ، بل باتت ضربًا من “الـمِصْيدة المتعدّدة الـمَحاور” التي تفرض إعادة تخيُّل الوجود الفلسطينيّ خارج ثنائيّة الدولة والمواطَنة.
في مداخلة السياسيّ والباحث في "مركز تقدُّم للسياسات"، أمير مخّول، أشار إلى أنّ معطيات الاستطلاع تُشكِّل مرآة مكثّفة لأثر عامَيْن من الكبت، انعكست في تراجع الثقة بالذات الجماعيّة، وتضعضُع الرابط المجتمعيّ، وغياب القدرة على استشراف المستقبل، وصولًا إلى استعداد ربع الفلسطينيّين للتفكير في الهجرة. كذلك لفت الانتباه إلى تعمُّق فقدان الثقة بالحركة السياسيّة، وإلى أنّ تزايد الاستعداد للمشاركة في الاحتجاجات عندما تكون محميّة وضمن إطار كِيانيّ واضح يعكس حاجة الجماهير إلى مظلّة جماعيّة آمنة. وشدّد على ضرورة إدماج تفاقم الجريمة في كلّ قراءة للواقع بوصف ذلك على أنّه سياسة دولة تُسهم في التفكيك وتآكل الثقة، وأضاف أنّه بغية اكتمال الصورة يجب النظر إلى الأزمة الإسرائيليّة الداخليّة وإلى السياق الفلسطينيّ العامّ، حيث لحظات النهوض أو التراجع يغذّي بعضها بعضًا؛ ومع الاعتراف بأنّ الخطر الوجوديّ والصدمة العميقة بعد السابع من تشرين الأوّل /أكتوبر (2023) واقعتان حقيقيّتان. وقد أكّد مخّول أنّ المطلوب اليوم هو تحويلُ هذا الخطر إلى تحدّيات، والدفعُ إلى إقامة حِوار واسع بين الحركة السياسيّة ومختلِف الفواعل، والانطلاقُ من الممكن، مثل مواجهة منظومة الجريمة، لفتح الطريق أمام مِساحات ومسائل كبرى أخرى.
أشارت نداء نصّار، مديرة "جمعيّة الشباب العرب- بلدنا" وعضو المكتب السياسيّ في التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ، إلى أنّ قراءة وفَهْم النتائج يستوجبان النظر إلى جملة من العوامل المترابطة، وسياق اجتماعيّ وسياسيّ أسَّسَ لفَهْم النتائج المركَّبة من بينها التحوُّلُ في الخطاب السياسيّ منذ تأسيس المشترَكة، وتأثيراتُ ما بعد هبّة الكرامة عام 2021 على استعداد الناس للمشاركة وحدّة الخوف السائد، والقبضةُ الحديديّة التي مارستها إسرائيل منذ لحظات الحرب الأولى والتصعيدُ في الملاحَقات السياسيّة. كذلك عرّجت على مجموعة من نتائج الاستطلاع في محاوَلة لإعطاء تفسير ونقد لبعض من النتائج التي يتضمّنها. تلا ذلك نقاش من قِبل الحضور حول معاني نتائج الاستطلاع وأبعادها.
رمَتْ هذه الجلسة الحِواريّة، التي أدارها التربويّ والشاعر والمسرحيّ أ.د. أيمن اغباريّة، إلى تعميق النقاش حول إنتاج المعرفة الأكاديميّة الفلسطينيّة في ظلّ حرب الإبادة الجارية في غزّة، باعتبارها لحظة كاشفة لحدود الخطاب الأكاديميّ المهَيْمِن وآليّاته. وناقشت الجلسة ظاهرة "المعرفة الآمنة" بوصفها شكلًا من أشكال إنتاج الجهل المؤسَّسيّ الذي يُخضِع الباحث الفلسطينيّ لممارسات رقابيّة تُحوِّل الكتابة إلى فعل امتثال وانضباط. علاوة على هذا، عالجت الجلسة العلاقة بين أنظمة الجهل التي تنظّم الحقل الأكاديميّ ومراتب الجهل التي يتخلّلها الوعي الأكاديميّ الفلسطينيّ في سعيه إلى التعبير عن ذاته بحرّيّة داخل فضاء أكاديميّ مقيّد، وإلى التفكير في إمكان بناء معرفة نقديّة مقاوِمة تُعيد وصل الفكر بالواقع الفلسطينيّ. شارك في الحِوار كلٌّ من د. سماح الخطيب - أيّوب، المديرة العامّة للجنة متابعة قضايا التعليم العرب، ونيـﭬـين علي صالح - دراوشة، المحاضِرة والباحثة في قسم العمل الاجتماعيّ في جامعة بار إيلان، وجمال مصطفى، طالب الماجستير في مجال الفلسفة في جامعة تل أبيب، وقد قام ثلاثتهم بطرح تجاربهم داخل الأكاديميّة الإسرائيليّة، وتناولوا آليّات الامتثال والممانعة التي تُشكِّل وعي الباحث الفلسطينيّ، وقدَّموا تحليلهم للمنظومة الأكاديميّة الإسرائيليّة. اختتم المؤتمرَ أ.د أيمن اغباريّة بتوجيه شكر إلى المشاركين في المؤتمر، وبالتأكيد على أهمّيّة عَقْد هذه اللقاءات بين الأكاديميّين والناشطين.
لمشاهَدة جلسات المؤتمر، يُرجى الضغط هنا.
لمعايَنة برنامج المؤتمر كاملًا، يُرجى الضغط هنا.