"تستعمل إسرائيل سياسات وقوانين التخطيط بشكل عنيف بهدف السيطرة على الحيز الفلسطيني في مدينة يافا وتهويده، وكذلك محو الحيز الفلسطيني من الواقع ومن الذاكرة؛ وقد أدت هذه السياسات والممارسات إلى إقصاء الفلسطينيين في يافا إلى حيز ضيّق ومحدود، وأدت إلى خلق حيز مشوه. بغية تحقيق أهدافها عملت إسرائيل على هدم معظم أحياء يافا الفلسطينية، هدم المناطق التاريخية والآثرية، غيّرت أسماء الشوارع والأحياء"، هذا بعض ما قالته مخططة المدن د. هناء حمدان، خلال الندوة التي عقدها برنامج الدراسات النسوية لمدى الكرمل في مدينة يافا. يذكر أن هذه الندوة التي تناولت وضع النساء الفلسطينيات في يافا وخلق حيزات بديلة، هي الندوة الثانية التي عقدها مدى الكرمل حول النساء الفلسطينيات في يافا.
أفتتحت الندوة وأدراتها د. نادرة شلهوب-كيفوركيان، مديرة برنامج الدراسات النسوية في مدى الكرمل، مشيرة إلى أنه مقابل الأبحاث الإسرائيلية التي تعتمد نظرة ثقافوية، استعلائية واستشراقية في كل ما يتعلق بفلسطين، الفلسطينيين والعرب، يعمل مدى الكرمل على تطوير أبحاث بديلة ومقاومة لتلك التوجهات. كما قالت شلهوب بأن الندوة هي جزء من بحث يجريه برنامج الدراسات النسوية لدراسة تأثير الاقتصاد السياسي الإسرائيلي على النساء الفلسطينيات في إسرائيل، بهدف خلق وعي مضاد ومقاوم. ثم أشارت إلى أهمية دراسة حالة يافا "يافا الذكرى، ويافا الواقع. يافا التي كانت مدينة ومركزا حضريا، ويافا التي هدمتها إسرائيل، وأفرغتها من معظم سكانها، وحولتها إلى مدينة أشباح".
ثم قدمت د. هناء حمدان مداخلة بعنوان "خلق حيزات بديلة: نساء فلسطينيات في يافا"، حيث عرضت "الحيزات البديلة" التي تنتجها النساء الفلسطينيات في يافا كجزء من مقاومة الحيز المستبد. يذكر أن المداخلة اعتمدت على رسالة الدكتوراه، والتي بحثت في الممارسات الحيّزيّة والتكتيكات اليومية لثلاثة أجيال من نساء يافا، ومن خلال ذلك فحصت كيفية تحديد، وتعريف، وتشكيل الشعور بالانتماء، لدى هؤلاء النساء في الحيّز المدينيّ.
اعتمدت د. حمدان في دراستها على النظريات المتعلقة بالحيز والحياة اليومية، والتي تدعي بأن الحيز ليس كينونة مادية ثابتة، بل كينونة متحركة ومتغيرة. وأن الحيز هو نتاج للعلاقات الاجتماعية وعلاقات القوى التي تشمل داخلها أنظمة سيطرة عديدة: قومية، جندريالية، ثقافية، طبقية وغيرها. وبعد استعراض للتغيّرات الجغرافية والحيزية التي مرت بها يافا، تناولت حمدان سياسات وقوانين التخطيط في إسرائيل، وكيف توظفها الدولة بهدف السيطرة على الحيز الفلسطيني وتهويده. "يشهد الحيز اليافاوي في السنوات ألأخيرة ما يسمى Gentrification أي دخول سكان جدد من أبناء الطبقة الوسطى-العليا إلى إحياء يافا، والذي رافقه عمليات ترميم وتجديد للبنية التحتية لخدمة السكان الجدد وتهميش السكان الاصلانيين"، قالت حمدان.
في ظل هذا الواقع من سياسات التخطيط الحيّزيّة والتقييدات المفروضة على السكان الأصلانيين، تقوم النساء الفلسطينيات في يافا بإنتاج حيزات بديلة بهدف مقاومة ومراوغة الحيز المستبد من أجل تحقيق هويتهن واحتياجاتهن. في هذا السياق تخلق النساء الفلسطينيات أربعة حيزات بديلة. "تدل هذه الحيزات البديلة المختلفة، والتي خلقت على يد النساء الفلسطينيات، على أن النساء الفلسطينيات بشكل عام والنساء الفلسطينيات في يافا بشكل خاص، لسن مجموعة واحدة ووحيدة، وأنها تتفاعل بشكل مختلف مع علاقات القوى المعقدة"، قالت حمدان.
الحيز الأول البديل هو الحيز القومي؛ فمن جهة تقوم النساء بمبادرات محلية، جماعية وفردية، لتطوير الحياة الاجتماعية والثقافية في يافا. ومن جهة أخرى تسافر النساء إلى مدن عربية مثل الناصرة، رام الله وقلقيلية. هناك تشعر النساء بالراحة والانتماء؛ الحيز الثاني البديل هو الحيز اليافاوي، والذي يمثل الهوية الفلسطينية؛ وهنالك الحيز الآخر، وهو الحيز اليهودي والذي يتمثل عامة بمدينة تل أبيب، وخاصة لدى النساء من الجيل الثالث؛ أما الحيز الرابع فهو الحيز الافتراضي، مثل الانترنيت.
وفي نهاية مداخلتها قالت حمدان بأن "النساء الفلسطينيات في يافا لا تستسلم لاستراتيجيات القوى القومية، والجندريالية، والثقافية، والعولمية، بل يستخدمن طرق وأساليب مختلفة من المناورة والمقامة للحيزات القمعية، وبهدف خلق وتوليد شعور الراحة والانتماء. علميا وبواسطة التكتيكات والمقاومة، تخلق النساء الفلسطينيات في يافا حيزات بديلة، هي حيزات المظلومين والمهمشين، بحيث تصبح المقاومة متاحة من خلال تلك الحيزات؛ تشكل هذه الحيزات البديلة حيزاً مناهضا للهيمنة، وحيزا يتيح لهن إجراء تغييرات في الممارسات اليومية، مما يساعدهن على ممارسة هويتهن".
بعدها عقبت د. فاطمة قاسم، من قسم العلوم الاجتماعية في جامعة بئر السبع، على المداخلة، مؤكدة على أهمية هذا النوع من البحث، وخاصة عندما تقوم باحثة فلسطينية على إنتاج معرفة جديدة عبر جلب أصوات غير مسموعة عادة، هي أصوات نساء فلسطينيات. كما أشارة د. قاسم إلى أهمية البحث في تناول "المدينة الفلسطينية قبل عام 1948، وما قامت به الصهيونية الاستيطانية من عمليات هدم وتحويل للمكان. فالفكر القومي هو فكر مديني ومدني ووجداني، له علاقة بالصناعة والتصنيع والحداثة. ولقد هدف هدم المدينة الفلسطينية إلى منع تطور وإقصاء الفلسطينيين عن المجتمع المدني وعن العالم المتمدن".